رسائل ملتهبه من تليمذه

والجو ضباب وأنا أتأمل الصورة الراقدة على الجدار




في مكتب الاخصائية النفسية بالمدرسة

قالت لي في لهجة الواعظ :
في نفس الوقت الذي تبنى فيه جسرا إبني فيه سورا .. لابد أن تحافظ على هذه الشعرة التي تبدو أنها واهية ضعيفة لكنها هي التي تكبح جماح العلاقة المتهورة التي تطوقك بها تلميذاتك
قلت في ثقة العارف ببواطن الأمور :
يا سيدتي إنهن قد فقدن احساسا بحثن عنه .. فإذا كان الأب غائب في بئر الحياة والأم غافلة بين مسح وطبيخ ذهبن هن للبحث عن الاحساس المفقود حتى لو بنيت ألف سور
الأفضل ألا أمد الجسر من الأساس

قالت في توتر ملحوظ :
كيف وأنت تعالج ألف مشكلة بهذا الجسر .. كيف لا تمد يد العون لهن وأنت تدرك أنهن يبحثن عن الأب الضائع في حنايا صوتك ودفء نظرتك !!!
قلت بنفس التوتر :
ليس من أجل أن أحل مشكلة أغرق أنا في بحر مشاكل .. مالي أنا وذاك الصداع الذي يفلق رأسي حين تطالني همساتهن النارية المرتابة !!

أومأت واعتدلت وهي تمسك برأسها :
لا تخف فثقتنا بك ليس لها حدود فبالرغم من أنك أصغرهم سنا إلا أن الجميع لمس فيك العقل والحكمة
رددت دون تفكير :
لا تؤسريني بكلماتك فأنا بشر يا سيدتى
ماذا أفعل أنا وكل يوم أجد بسيارتي خطاب ملتهب كتب بحروف تمتلئ احتياجا

ألقت بالخطاب الوردي المعطر على مكتبها تطالبني نظراتها بالصبر :
لن أستطيع أن أبحث عنها من بين خمسمائة طالبة و ...

مقاطعا دون انتظار
كيف لي بالصبر وأنا محاصر بخطاباتها التي ترسلها لي كل يوم
ألم تقرأي جيدا .. ألم تتعمقي في قلب حروفها .. ألم تسر قشعريرة في أوصالك وهي تقول :حبيبي أو أخي أو أبي أو صديقي
أو أستاذي
لا أجد لقبا محددا فأنت كل هذي الألقاب وروحك كل هذي الشخوص
لقد كان أول يوم لي في الدراسة يوما حزينا فقبله بيوم واحد فقط انفصل أبي عن أمي وغادرنا بلا رجعة وذهبت إلى مدرستى الجديدة لا أجد من يكفكف دموعي ويطبب روحي المكلومة






وجدتك نورا ساطعا هناك على البعد ومعك بعض الأوراق وترتدي بذلة كحلية اللون تملؤك وقارك لكنها فشلت هي وبعض شعيراتك البيض المتنائرة على رأسك أن تخبىء سنك الحقيقي

قلت لي يومها معاتبا :
_ كدة من أول يوم .. تأخير .. إسمك إيه ؟!!

_ اسمي ...............
_ الله إيه إيه الاسم الجميل دة يا بنتي
بصي انت فصلك في آخر الطرقة شمال
شدي حيلك بقى في المذاكرة وعاوزين مجهود السنة دي لأن سنة أولى هي الأساس
لشهادة السنة اللي جاية .. ربنا يوفقك


أخذك منى زميلك ولكن أحدا لن يأخذك من قلبي .. بعد انتهاء حصصي .. بحثت عنك في الفسحة حتى وجدتك باسما تلقي بظلال حكاياتك لتلميذاتك القدامى اللاتي هن في الصف الثاني الآن وأنا أراقبك من بعيد وأحسدهن على وقوفهن معك وأرقب نظراتهن المحبة وابتسامتك الدافئة التى توزعها عليهن بالعدل وكلما ذكرت موقفا لإحداهن وضحكت الأخريات تمنيت بيني وبين نفسي أن أكون أنا التي تذكر لها الموقف

انتهت الفسحة ولم تفارقني وانتهى اليوم وأنت معي .. ذهبت للبيت ولم أجد أبي تذكرت أحداث اليوم السابق ولم تفارق أذني أصداء كلمته وهو يطلق أمي بعد زواج دام سبعة عشر سنة

دخلت إلى حجرتي التى تشاركنى فيها أختى الصغيرة ومازلت أشعر بجرح في قلبي لم يندمل بعد .. راق لنفسي أن تأتي صورك لتعانق يومي وتمسح دموع تعبت من البحث عن مآقيها

سافرت في حلم بعيد في أن تأتى لتنتشلني من هذا الضياع فقد بح صوتي وأنا أنادي ولا يسمعني أحد ووجدتك في صحرائي واحة يرتاح في ظلها الراحلون

لم أفق إلا إثر هجوم صوت أمي وهي تناديني للغداء بحروف مهزومة وقلب مطعون
تتحاشى مواجهتنا بما حدث وتتظاهر أن ما حدث هو مجرد سحابة داكنة مرت على صفاء سماء حياتنا .. لكنها الحقيقة المرة أن أبي تركنا إلى غير رجعة .. تركنا ونحن في أشد الحاجة إليه .

لن أطيل عليك
ولكن عندي رجاء هو ألا تلقى بأوراقي في سلة المهملات
ولا تتضايق أنى فكرت في مراسلتك أنت دون غيرك
ولا تستهين بمشاعري لمجرد أنها من تلميذة لم تتعدى الستة عشر ربيعا من عمرها


حبي واخلاصي
إلي اللقاء
س . أ

بمجرد أن انتهيت من قراءة هذه الرسالة المكتوية بنار الأحزان
وأنا لم تزل الحيرة تراودني والشك فيما كنت أقول يساورني حتى وجدتني منغمس في بئر سحيق من الارتياب من أكون فعلت شيئا خاطئا وشعرت أن كل نظرات البنات مصوبة تجاهي وكلما حانت من احداهن التفاتة عن غير قصد كنت أشك أنها تقصدني ولكني تخلصت من هذا الاحساس سريعا

ولكن كيف لي أن أشك في نفسي وأنا الذي قضيت بهذه المدرسة خمس أعوام ولم يحدث معي شيء كهذا .. أقنعت نفسي وكأن شيئا لم يحدث وأكيد هذه الفتاه كتبت ما كتبت ليس عشقا في خضار عيني وشعري الناعم المنسدل على جبينى .. ولكنها كتبت ما كتبت إثر تجربة قاسية ومعركة مريرة عصفت باستقرار الأسرة .

لم الانزعاج وقد صرحت من أول كلمة انها لا تجد لي لقبا تنادينى به .. فأنا بالنسبة لها حبيب وأخ وأستاذ وأب وصديق .. لابد وأنها ضائعة في دروب تجربتها المريرة ولا تعرف كيف الخروج من دهاليز هذه المتاهة المدمرة .؟!!

ولكن كيف لي بالمواجهة مع واقعي إذا تسرب هذا الخبر لاحداهن .. لا بأس من الممكن أن أجمع خطاباتهن كبريد الاهرام وأعكف على حل هذه المشاكل ولكن هل من قارئ

ماذا سأفعل هل أشرك غيري معي في همي .. نعم هي من ستفهمنى وتحل معي هذه المشكلة .. داليا .. الاخصائية النفسية بمدرستنا .. لطالما أحبت البنات وبادلهن حبا بحب ووجدن عندها ذلك الملاذ حيث الهروب من جحيم البيت إلى جنتها وارفة الظلال

ذهبت وكلي أمل أن أجد عندها الحل .. حكيت وتكلمت واستمر الحديث بين مد وجزر إلى أن خلصنا بأن انتظر لحين انتهاءها من خطط التوعية بالمرض الخطير المنتشر ثم تتفرغ بعدها لمشكلة الطالبة س . أ
هل من حل عندكم ؟!!
أبي وأستاذي
قد تكون أصابتك كلمة حبيبي بالتوتر في رسالتي السالفة لكنى أحببتك حب الإبنة لأبيها.. ألا تذكر يوم شرحت لنا العظة من رواية شيكيسبير الشهيرة ( الملك لير ) يومها قلت أن الحب يابناتي أفعال وليس أقوال .. واعترفت لنا بأن الآباء يفعلون كثيرا من أجلنا دون أن ينتظروا منا كلمة شكر

ولقد شعرت كثيرا يومها بالابنة الصغرى كورديليا وكادت عيناي تطفقان بالدموع وصوتك الدافيء يأتينى من بعيد يلملم أشلاء نفسي ويطبب ما استعصى من جراحي وحين تهادت حروفك على كلماتها لأبيها وهي تعترف أنها تحبه تمنيت أن أكون أنا هي واعترف لأبي أنى أحبه ولكن هيهات يعود .. هل اعترف لحضرتك أنت يا أبي .. هل تقبلنى أختا لملك ؟!!!!

نعم أنا أذكر جيدا هذا اليوم الذي وزعت فيه لنا الشيكولاتة في الفصل ابتهاجا بقدوم ابنة حضرتك ولم يطاوعنى لساني يومها ان اقول : شكرا يا مستر وقال قلبي قبل لسانى شكرا يا بابا

ومضيت يومي أفكر وحسبت ملك من أسعد السعداء لأن حضرتك والدها .. لقد افتقدت كلمة بابا كثيرا .. اختلست اليوم النظر لصورته في الصالة ووجدت أمي تمسح ما علق بها من تراب

دخلت حجرتي وبكيت حتى انتهت الدموع .. من يسمع صوتى .. ليس غيرك يا أستاذي
أريد أبي .. أريد أبي .. أرجوك تصرف وأعد لي أبي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اجمل الكلمات محمد عبده

احذر لا تجمع حسنات فى كيس مثقوب