ادب التغافل
أدب التغافل
لا يخلو شخص من نقص ،ومن المستحيل يجد كل مايريده أحدنا في الطرف الآخركاملاً.. كما أنه لا يكاد يمر وقت دون أن يشعر أحدنا بالضيق من تصرف عملهالآخر .
ولهذا على كل واحد منا تقبل الطرف الآخر والتغاضي عما لا يعجبه فيه من صفات، أو طبائع ، وكما قال الإمام أحمد بن حنبل "تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل".
التغــافل
التغافل لغةً : هو تعمد الغفلة ، و أرى من نفسه أنه غافلُ و ليس به غفلة
التغافل : وهو تكلف الغفلة مع العلم والإدراك لما يتغافل عنه تكرماً وترفعاً عن سفاسف الأمور .
النبي صلى الله عليه وسلم و التغافل
قال تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَهَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } [ التحريم:3 ] . أي أخبررسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة ببعض ما أخبرت به عائشة معاتباً لها،ولم يخبرها بجميع ما حصل منها حياءً منه وكرماً، فإِن من عادة الفضلاء التغافل عن الزلات، والتقصير في اللوم والعتاب.
قال الحسن: ما استقصى كريمٌ قط.
وقال سفيان: ما زال التغافل من شيم الكرام.
واعلم أن من الدهاء كل الدهاء التغافل عن كل ذنب لا تستطاع العقوبة عليه، ومن عداوة كل عدو لا تقدر على الانتصار منه.
فأما التغافل عن ما لا يعني فهو العقل. وقد قال الحكماء: لا يكون المرء عاقلاً حتى يكون عما لا يعنيه غافلاً.
النبي صلى الله عليه وسيلم في الطائف
لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله تعالى لا يشرك به شيئا وعند ذلكقال له ملك الجبال أنت كما سماك ربك رؤوف رحيم .
و أشار صاحب الهمزية بقوله:
جهلت قومه عليه فأغضى وأخو الحلم دأبه الإغضاء
وسع العالمين علما وحلما فهو بحر لم تعيه الأعباء
أي جهلت قومه عليه فآذوه أذية لا تطاق فأغضى عنهم حلما وأخو الحلم أي وصاحبعدم الانتقام شأنه التغافل فإن علمه وسع لوم العالمين ووسع حلمه حلمهم فهوواسع العلم والحلم لم تعيه الأعباء أي لم تتعبه الأثقال .
الامير المجاهد قتيبة بن مسلم والتغافل
دخل رجل على الأمير المجاهد قتيبة بن مسلم الباهلي، فكلمه في حاجة له، ووضعنصل سيفه على الأرض فجاء على أُصبع رجلِ الأمير، وجعل يكلمه في حاجته وقدأدمى النصلُ أُصبعه، والرجل لا يشعر، والأمير لا يظهر ما أصابه وجلساءالأمير لا يتكلمون هيبة له، فلما فرغ الرجل من حاجته وانصرف دعا قتيبة بنمسلم بمنديل فمسح الدم من أُصبعه وغسله، فقيل له: ألا نحَّيت رجلك أصلحكالله، أو أمرت الرجل برفع سيفه عنها؟ فقال: خشيت أن أقطع عنه حاجته.
فلقد كان في قدرة الأمير أن يأمره بإبعاد نصل سيفه عن قدمه، وليس هنالك منملامة عليه، أو على الأقل أن يبعد الأمير قدمه عن نصل سيفه، ولكنه أدب التغافل حتى لا يقطع على الرجل حديثه، وبمثل هذه الأخلاق ساد أولئك الرجال.
من كان يرجو أن يسود عشيرة **** فعليه بالتقوى ولين الجانب
ويغض طرفا عن إساءة من أساء *** ويحلم عند جهل الصاحب
لماذا سمي حاتم الأصم بذلك؟
القدوة الرباني أبو عبد الرحمن حاتم بن عنوان بن يوسف البلخي ، الواعظالناطق له كلام جليل في الزهد والمواعظ والحكم ، كان يقال له " لقمان هذهالأمة " .
قال أبو علي الدقاق: جاءت امرأة فسألت حاتماً عن مسألة ، فاتفق أنه خرجمنها صوت في تلك الحالة فخجلت ،فقال حاتم : ارفعي صوتك فأوهمها أنه أصمّفسرّت المرأة بذلك ، وقالت : إنه لم يسمع الصوت فلقّب بحاتم الأصم. انتهى. [ مدارج السالكين ج2ص344 ] .
هذا الأدب الذي وقع من حاتم الأصم هو من أدب السادة ، أما السوقة فلايعرفون مثل هذا الآداب ، ولذلك تراهم لدنو همتهم يحصون الصغيرة ، ويجعلونمن الحبة قبة ، ومن القبة مزاراً ، وهؤلاء وإن أظهروا في الإحصاء علىالآخرين فنون متنوعة من ضروب الذكاء والخداع ، ولكنه ذكاء أشبه بإمارات أهلالحمق والترق الذين تستفزهم الصغائر عند غيرهم ، ولا يلقون بالا للكبائرعند أنفسهم،و أمثال هؤلاء لا يكونون من السادة في أقوامهم الذين عناهمالشاعر بقوله:
ليس الغبي بسيد في قومه **** لكن سيد قومه المتغابي
وقال الحسن : "ما استقصى كريم قط قال الله تعالى عرف بعضه وأعرض عن بعض " [ تفسير القرطبي ج18 ص188] .
وقال الشاعر :
أحب من الأخوان كل مواتي *وكل غضيض الطرف عن هفوات
ومن المواقف الجلية في أدب التغافل ، ما ذكره ابن جريج عن عطاء بن أبي رباحقال : إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأن لم أسمعه قط وقد سمعته قبلأن يولد. [ تاريخ مدينة دمشق ج:40 ص:401 ] .
قال ابن الأثير متحدثًا عن صلاح الدين الأيوبي:'وكان صبورًا على ما يكره،كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره، ولا يعلمه بذلك، ولايتغير عليه. وبلغني أنه كان جالسًا وعنده جماعة، فرمى بعض المماليك بعضًا بسرموز- يعني:بنعل- فأخطأته، ووصلت إلى صلاح الدين فأخطأته، ووقعت بالقربمنه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه؛ ليتغافل عنها'.
التغافل و المشاكل الزوجية :
وأما المشاكل العابرة فهي المشاكل التي يفتعلها أحد الزوجين بشكل استثنائيعابر , وهي ليست من صفاته الدائمة , وإنما كما يقال : لكل عالم هفوة , ولكلجواد كبوة .
ومثالنا على ذلك كأن يستهزئ الزوج بزوجته وليس من عادته الاستهزاء , أو أنيتحدث عن بعض عيوبها أمام أهلها وليس من عادته فعل ذلك , وهذه التصرفاتيكفي في علاجها الإشارة فقط , ولا ينبغي لأي من الزوجين أن يعاتب الأخرويهجره من أجل هذه التصرفات وذلك باعتبار أنها عابرة وليست دائمة والأصل فيالمشاكل العابرة إتباع أسلوب التغافل معها .
من فقه الحياة الزوجية التغاضي عن دقيق المحاسبة :
ولكلٍ من الزوجين على الآخر حق ، وربما كانت الدقة في المراقبة والشدة في المحاسبة من بواعث الاضطراب وعدم الاستقرار ، وفي التغافل أحياناً ،والمرونة أحياناً كفالة باستدامة السعادة ، وبقاء المعاشرة الجميلة ، كلذلك ضمن الضوابط الشرعية والتوصيات الأخلاقية
التغافل وتربية الأولاد
يجب التغافل عن بعض هفوات التلاميذ وعدم التعليق على كل حركة تصدر عنه بللا بد أن ننبههم بروح الشفقة والرحمة حتى لا نذل نفسه ونحطم شخصيته أوندفعه لاكتساب عادات خلقية سيئة كالعناد والكذب، ولنتمثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابي الذي كبر للصلاة من أول المسجد وركع وظل يمشيحتى وصل الصف فنبهه النبي صلى الله عليه وسلم على خطئه بلطف حيث قال: ((زادك الله حرصا ولا تعد)).
من أنماط التربية، التغافل -لا الغفلة- عن بعض ما يصدر من الأولاد من عبثأ وطيش وهو مبدأ يأخذ به العقلاء في تعاملهم مع أولادهم ومع الناس عموما؛ فالعاقل لا يستقصي، ولا يشعر من تحت يده أو من يتعامل معهم بأنه يعلم عنهمكل صغيرة وكبيرة؛ لأنه إذا استقصى، وأشعرهم بأنه يعلم عنهم كل شيء ذهب تهيبته من قلوبهم ، ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي ،ثم إنتغافله يعينه على تقديم النصح بقالب غير مباشر، من باب: إياك أعني واسمعييا جاره، ومن باب: ما بال أقوام. وربما كان ذلك أبلغ وأوقع.
من أخطاء المُعلم :
محاولة ضبط الطفل أكثر من اللازم : بحيث لا تتاح له الفرصة للعب والمرحوالحركة. وهذا يتعارض مع طبيعة الطفل وقد يضر بصحته إذ أن هذا اللعب مهم لنمو الطفل بصورة جيدة إذ أن (اللعب في المكان الطلق الفسيح من أهم الأمورالتي تساعد على نمو جسم الطفل وحفظ صحته) فينبغي أن يتجنب الأب زجر الأولادعند مبالغتهم في اللعب بالتراب أثناء النزهة على شاطئ البحر أو فيالصحراء. وذلك لأن الوقت وقت ترفيه ولعب وليس وقت انضباط، وليس ثمة وقتينطق فيه الأولاد بلا قيود إلا في مثل هذه النزهات البريئة، فلابد من التغافل عنهم بعض الشيء.
التغافل على أخطاء قليلة حكمةٌ تربويَّة :
إذا ظهر على الصبي خُلقٌ جميل وفعلٌ محمود ، فينبغي أن يكرَّم عليه ـ يجبأن تثني على ابنك إذا رأيت منه خُلقاً حميداً ؛ أمانةً ، وفاءً ، صدقاً ـويجازى عليه لما يفرح به ، وأن يُمدح بين أظهر الناس ، فإن خالف ذلك في بعضالأحوال مرَّةً واحدة فينبغي أن يتغافل عنه . جاء في وصية الغزالي : فإذا خالف ذلك في بعض الأحوال مرَّةً واحدة فينبغي أن نتغافل عنه ـ وأن لا نهتكستره ، وألا نكاشفه ، أما إذا عاد ثانيةً يُعاتب عتاباً رقيقاً فيما بينك وبينه .
لمن التغافل
مسامحة أهل الاستئثار والاستغنام والتغافل لهم ليس مروءة ولا فضيلة بل هومهانة وضعف وترضية لهم على التمادي على ذلك الخلق المذموم وتغبيط لهم بهوعون لهم على ذلك الفعل السوء.
وإنما تكون المسامحة مروءة لأهل الإنصاف المبادرين إلى الإنصاف والإيثارفهؤلاء فرض على أهل الفضل أن يعاملوهم بمثل ذلك لا سيما إن كانت حاجتهم أمس وضرورتهم أشد.
التغافل شيمة أهل الدين
عن أبي هريرة قال : قال صلى الله عليه وسلم إياكم و الظن فإن الظن أكذب الحديث. متفق عليه
وسوء الظن يدعو إلى التحسس و التجسسن . فعن أبي هريرة قال: قال صلى اللهعليه وسلم لا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تقاطعوا و لاتدابروا وكونوا عباد الله إخوانا . متفق عليه.
التجسس في تطلع الأخبار و التحسس بالمراقبة بالعين فستر العيوب و التجاهل والتغافل عنها شيمة أهل الدين ويكفيك تنبيها على كمال الرتبة في ستر القبيحو إظهار الجميل أن الله تعالى وصف به في الدعاء فقيل يا من أظهر الجميل وستر القبيح و المرضى عند الله من تخلق بأخلاقه فإنه ستار العيوب و غفارالذنوب ومتجاوز عن العبيد فكيف لا تتجاوز أنت عمن هو مثلك أو فوقك.
وقد قال عيسى عليه السلام للحواريين كيف تصنعون إذا رأيتم أخاكم نائما وقدكشف الريح ثوبه عنه قالوا نستره ونغطيه قال بل تكشفون عورته قالوا سبحانالله من يفعل هذا فقال أحدكم يسمع بالكلمة في أخيه فيزيد عليها ويشيعه ابأعظم منها.
قال عمرو بن عثمان المكي : المروءة التغافل عن زلل الإخوان .
عن أبي بكر بن أبي الدنيا أن محمد بن عبد الله الخزاعي قال : سمعت عثمان بن زائدة يقول :
العافية عشرة أجزاء تسعة منها في التغافل . قال : فحدثت به أحمد بن حنبل فقال : العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل .
قال الأعمش : التغافل يطفئ شراً كثيراً .
عن أبي بكر بن عياش قال : قال كسرى لوزيره ما الكرم ؟ قال : التغافل عن الزلل .."
و في قوله صلى الله عليه وسلم : (إن الله يحب الرفق في الأمر كله) استحبابتغافل أهل الفضل عن سفه المبطلين إذا لم يترتب عليه مفسدة. قال الشافعي: الكيس العاقل هو الفطن المتغافل.
قال جعفر بن محمد الصادق: (عظموا أقدراكم بالتغافل).
قال المهاجري: (قال أعرابي لرجل: قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس لأن طالبها متهم بقدر ما فيه منها).
وكما قال الإمام أحمد بن حنبل "تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل"
والحسن البصري يقول: ما زال التغافل من فعل الكرام"..
وقال أكثم بن صَيْفيّ: الكَرم حُسن الفِطنة وحُسْنُ التغافل واللّؤم سوءُالفطنة وسُوء التغافل ولم تَرَ أهلَ النُّهَى والمنسوبِين إلى الحِجَاوالتُّقَى مَدَحوا الحلماءَ بشدة العقاب وقد ذكروهم بحُسن الصَّفْح وبكثرةالاغتفار وشدّة التغافُل وبعد فالمُعَاقِب مستعدٌّ لعداوة أولياءِ المذنِبوالعافي مُسْتَدْعٍ لشكرهم آمِنٌ من مكافأتهم أيّامَ قدرتهم ولأنْ يُثنَىعليك باتِّساع الصدر خيرٌ من أن يُثْنى عليك بضِيق الصَّدر على أنّ إقالتك عثرةَ عبادِ اللّه موجبٌ لإقالتك عَثْرَتَكَ من ربِّ عباد اللّه وعفوُك عنه موصولٌ بعفو اللّه عنك وعقابُك لهم موصولٌ بعقاب اللّه لك".
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العاملين
المصدر
التغافل للكاتب توفيق علي زبادي
ولهذا على كل واحد منا تقبل الطرف الآخر والتغاضي عما لا يعجبه فيه من صفات، أو طبائع ، وكما قال الإمام أحمد بن حنبل "تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل".
التغــافل
التغافل لغةً : هو تعمد الغفلة ، و أرى من نفسه أنه غافلُ و ليس به غفلة
التغافل : وهو تكلف الغفلة مع العلم والإدراك لما يتغافل عنه تكرماً وترفعاً عن سفاسف الأمور .
النبي صلى الله عليه وسلم و التغافل
قال تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَهَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } [ التحريم:3 ] . أي أخبررسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة ببعض ما أخبرت به عائشة معاتباً لها،ولم يخبرها بجميع ما حصل منها حياءً منه وكرماً، فإِن من عادة الفضلاء التغافل عن الزلات، والتقصير في اللوم والعتاب.
قال الحسن: ما استقصى كريمٌ قط.
وقال سفيان: ما زال التغافل من شيم الكرام.
واعلم أن من الدهاء كل الدهاء التغافل عن كل ذنب لا تستطاع العقوبة عليه، ومن عداوة كل عدو لا تقدر على الانتصار منه.
فأما التغافل عن ما لا يعني فهو العقل. وقد قال الحكماء: لا يكون المرء عاقلاً حتى يكون عما لا يعنيه غافلاً.
النبي صلى الله عليه وسيلم في الطائف
لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله تعالى لا يشرك به شيئا وعند ذلكقال له ملك الجبال أنت كما سماك ربك رؤوف رحيم .
و أشار صاحب الهمزية بقوله:
جهلت قومه عليه فأغضى وأخو الحلم دأبه الإغضاء
وسع العالمين علما وحلما فهو بحر لم تعيه الأعباء
أي جهلت قومه عليه فآذوه أذية لا تطاق فأغضى عنهم حلما وأخو الحلم أي وصاحبعدم الانتقام شأنه التغافل فإن علمه وسع لوم العالمين ووسع حلمه حلمهم فهوواسع العلم والحلم لم تعيه الأعباء أي لم تتعبه الأثقال .
الامير المجاهد قتيبة بن مسلم والتغافل
دخل رجل على الأمير المجاهد قتيبة بن مسلم الباهلي، فكلمه في حاجة له، ووضعنصل سيفه على الأرض فجاء على أُصبع رجلِ الأمير، وجعل يكلمه في حاجته وقدأدمى النصلُ أُصبعه، والرجل لا يشعر، والأمير لا يظهر ما أصابه وجلساءالأمير لا يتكلمون هيبة له، فلما فرغ الرجل من حاجته وانصرف دعا قتيبة بنمسلم بمنديل فمسح الدم من أُصبعه وغسله، فقيل له: ألا نحَّيت رجلك أصلحكالله، أو أمرت الرجل برفع سيفه عنها؟ فقال: خشيت أن أقطع عنه حاجته.
فلقد كان في قدرة الأمير أن يأمره بإبعاد نصل سيفه عن قدمه، وليس هنالك منملامة عليه، أو على الأقل أن يبعد الأمير قدمه عن نصل سيفه، ولكنه أدب التغافل حتى لا يقطع على الرجل حديثه، وبمثل هذه الأخلاق ساد أولئك الرجال.
من كان يرجو أن يسود عشيرة **** فعليه بالتقوى ولين الجانب
ويغض طرفا عن إساءة من أساء *** ويحلم عند جهل الصاحب
لماذا سمي حاتم الأصم بذلك؟
القدوة الرباني أبو عبد الرحمن حاتم بن عنوان بن يوسف البلخي ، الواعظالناطق له كلام جليل في الزهد والمواعظ والحكم ، كان يقال له " لقمان هذهالأمة " .
قال أبو علي الدقاق: جاءت امرأة فسألت حاتماً عن مسألة ، فاتفق أنه خرجمنها صوت في تلك الحالة فخجلت ،فقال حاتم : ارفعي صوتك فأوهمها أنه أصمّفسرّت المرأة بذلك ، وقالت : إنه لم يسمع الصوت فلقّب بحاتم الأصم. انتهى. [ مدارج السالكين ج2ص344 ] .
هذا الأدب الذي وقع من حاتم الأصم هو من أدب السادة ، أما السوقة فلايعرفون مثل هذا الآداب ، ولذلك تراهم لدنو همتهم يحصون الصغيرة ، ويجعلونمن الحبة قبة ، ومن القبة مزاراً ، وهؤلاء وإن أظهروا في الإحصاء علىالآخرين فنون متنوعة من ضروب الذكاء والخداع ، ولكنه ذكاء أشبه بإمارات أهلالحمق والترق الذين تستفزهم الصغائر عند غيرهم ، ولا يلقون بالا للكبائرعند أنفسهم،و أمثال هؤلاء لا يكونون من السادة في أقوامهم الذين عناهمالشاعر بقوله:
ليس الغبي بسيد في قومه **** لكن سيد قومه المتغابي
وقال الحسن : "ما استقصى كريم قط قال الله تعالى عرف بعضه وأعرض عن بعض " [ تفسير القرطبي ج18 ص188] .
وقال الشاعر :
أحب من الأخوان كل مواتي *وكل غضيض الطرف عن هفوات
ومن المواقف الجلية في أدب التغافل ، ما ذكره ابن جريج عن عطاء بن أبي رباحقال : إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأن لم أسمعه قط وقد سمعته قبلأن يولد. [ تاريخ مدينة دمشق ج:40 ص:401 ] .
قال ابن الأثير متحدثًا عن صلاح الدين الأيوبي:'وكان صبورًا على ما يكره،كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره، ولا يعلمه بذلك، ولايتغير عليه. وبلغني أنه كان جالسًا وعنده جماعة، فرمى بعض المماليك بعضًا بسرموز- يعني:بنعل- فأخطأته، ووصلت إلى صلاح الدين فأخطأته، ووقعت بالقربمنه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه؛ ليتغافل عنها'.
التغافل و المشاكل الزوجية :
وأما المشاكل العابرة فهي المشاكل التي يفتعلها أحد الزوجين بشكل استثنائيعابر , وهي ليست من صفاته الدائمة , وإنما كما يقال : لكل عالم هفوة , ولكلجواد كبوة .
ومثالنا على ذلك كأن يستهزئ الزوج بزوجته وليس من عادته الاستهزاء , أو أنيتحدث عن بعض عيوبها أمام أهلها وليس من عادته فعل ذلك , وهذه التصرفاتيكفي في علاجها الإشارة فقط , ولا ينبغي لأي من الزوجين أن يعاتب الأخرويهجره من أجل هذه التصرفات وذلك باعتبار أنها عابرة وليست دائمة والأصل فيالمشاكل العابرة إتباع أسلوب التغافل معها .
من فقه الحياة الزوجية التغاضي عن دقيق المحاسبة :
ولكلٍ من الزوجين على الآخر حق ، وربما كانت الدقة في المراقبة والشدة في المحاسبة من بواعث الاضطراب وعدم الاستقرار ، وفي التغافل أحياناً ،والمرونة أحياناً كفالة باستدامة السعادة ، وبقاء المعاشرة الجميلة ، كلذلك ضمن الضوابط الشرعية والتوصيات الأخلاقية
التغافل وتربية الأولاد
يجب التغافل عن بعض هفوات التلاميذ وعدم التعليق على كل حركة تصدر عنه بللا بد أن ننبههم بروح الشفقة والرحمة حتى لا نذل نفسه ونحطم شخصيته أوندفعه لاكتساب عادات خلقية سيئة كالعناد والكذب، ولنتمثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابي الذي كبر للصلاة من أول المسجد وركع وظل يمشيحتى وصل الصف فنبهه النبي صلى الله عليه وسلم على خطئه بلطف حيث قال: ((زادك الله حرصا ولا تعد)).
من أنماط التربية، التغافل -لا الغفلة- عن بعض ما يصدر من الأولاد من عبثأ وطيش وهو مبدأ يأخذ به العقلاء في تعاملهم مع أولادهم ومع الناس عموما؛ فالعاقل لا يستقصي، ولا يشعر من تحت يده أو من يتعامل معهم بأنه يعلم عنهمكل صغيرة وكبيرة؛ لأنه إذا استقصى، وأشعرهم بأنه يعلم عنهم كل شيء ذهب تهيبته من قلوبهم ، ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي ،ثم إنتغافله يعينه على تقديم النصح بقالب غير مباشر، من باب: إياك أعني واسمعييا جاره، ومن باب: ما بال أقوام. وربما كان ذلك أبلغ وأوقع.
من أخطاء المُعلم :
محاولة ضبط الطفل أكثر من اللازم : بحيث لا تتاح له الفرصة للعب والمرحوالحركة. وهذا يتعارض مع طبيعة الطفل وقد يضر بصحته إذ أن هذا اللعب مهم لنمو الطفل بصورة جيدة إذ أن (اللعب في المكان الطلق الفسيح من أهم الأمورالتي تساعد على نمو جسم الطفل وحفظ صحته) فينبغي أن يتجنب الأب زجر الأولادعند مبالغتهم في اللعب بالتراب أثناء النزهة على شاطئ البحر أو فيالصحراء. وذلك لأن الوقت وقت ترفيه ولعب وليس وقت انضباط، وليس ثمة وقتينطق فيه الأولاد بلا قيود إلا في مثل هذه النزهات البريئة، فلابد من التغافل عنهم بعض الشيء.
التغافل على أخطاء قليلة حكمةٌ تربويَّة :
إذا ظهر على الصبي خُلقٌ جميل وفعلٌ محمود ، فينبغي أن يكرَّم عليه ـ يجبأن تثني على ابنك إذا رأيت منه خُلقاً حميداً ؛ أمانةً ، وفاءً ، صدقاً ـويجازى عليه لما يفرح به ، وأن يُمدح بين أظهر الناس ، فإن خالف ذلك في بعضالأحوال مرَّةً واحدة فينبغي أن يتغافل عنه . جاء في وصية الغزالي : فإذا خالف ذلك في بعض الأحوال مرَّةً واحدة فينبغي أن نتغافل عنه ـ وأن لا نهتكستره ، وألا نكاشفه ، أما إذا عاد ثانيةً يُعاتب عتاباً رقيقاً فيما بينك وبينه .
لمن التغافل
مسامحة أهل الاستئثار والاستغنام والتغافل لهم ليس مروءة ولا فضيلة بل هومهانة وضعف وترضية لهم على التمادي على ذلك الخلق المذموم وتغبيط لهم بهوعون لهم على ذلك الفعل السوء.
وإنما تكون المسامحة مروءة لأهل الإنصاف المبادرين إلى الإنصاف والإيثارفهؤلاء فرض على أهل الفضل أن يعاملوهم بمثل ذلك لا سيما إن كانت حاجتهم أمس وضرورتهم أشد.
التغافل شيمة أهل الدين
عن أبي هريرة قال : قال صلى الله عليه وسلم إياكم و الظن فإن الظن أكذب الحديث. متفق عليه
وسوء الظن يدعو إلى التحسس و التجسسن . فعن أبي هريرة قال: قال صلى اللهعليه وسلم لا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تقاطعوا و لاتدابروا وكونوا عباد الله إخوانا . متفق عليه.
التجسس في تطلع الأخبار و التحسس بالمراقبة بالعين فستر العيوب و التجاهل والتغافل عنها شيمة أهل الدين ويكفيك تنبيها على كمال الرتبة في ستر القبيحو إظهار الجميل أن الله تعالى وصف به في الدعاء فقيل يا من أظهر الجميل وستر القبيح و المرضى عند الله من تخلق بأخلاقه فإنه ستار العيوب و غفارالذنوب ومتجاوز عن العبيد فكيف لا تتجاوز أنت عمن هو مثلك أو فوقك.
وقد قال عيسى عليه السلام للحواريين كيف تصنعون إذا رأيتم أخاكم نائما وقدكشف الريح ثوبه عنه قالوا نستره ونغطيه قال بل تكشفون عورته قالوا سبحانالله من يفعل هذا فقال أحدكم يسمع بالكلمة في أخيه فيزيد عليها ويشيعه ابأعظم منها.
قال عمرو بن عثمان المكي : المروءة التغافل عن زلل الإخوان .
عن أبي بكر بن أبي الدنيا أن محمد بن عبد الله الخزاعي قال : سمعت عثمان بن زائدة يقول :
العافية عشرة أجزاء تسعة منها في التغافل . قال : فحدثت به أحمد بن حنبل فقال : العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل .
قال الأعمش : التغافل يطفئ شراً كثيراً .
عن أبي بكر بن عياش قال : قال كسرى لوزيره ما الكرم ؟ قال : التغافل عن الزلل .."
و في قوله صلى الله عليه وسلم : (إن الله يحب الرفق في الأمر كله) استحبابتغافل أهل الفضل عن سفه المبطلين إذا لم يترتب عليه مفسدة. قال الشافعي: الكيس العاقل هو الفطن المتغافل.
قال جعفر بن محمد الصادق: (عظموا أقدراكم بالتغافل).
قال المهاجري: (قال أعرابي لرجل: قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس لأن طالبها متهم بقدر ما فيه منها).
وكما قال الإمام أحمد بن حنبل "تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل"
والحسن البصري يقول: ما زال التغافل من فعل الكرام"..
وقال أكثم بن صَيْفيّ: الكَرم حُسن الفِطنة وحُسْنُ التغافل واللّؤم سوءُالفطنة وسُوء التغافل ولم تَرَ أهلَ النُّهَى والمنسوبِين إلى الحِجَاوالتُّقَى مَدَحوا الحلماءَ بشدة العقاب وقد ذكروهم بحُسن الصَّفْح وبكثرةالاغتفار وشدّة التغافُل وبعد فالمُعَاقِب مستعدٌّ لعداوة أولياءِ المذنِبوالعافي مُسْتَدْعٍ لشكرهم آمِنٌ من مكافأتهم أيّامَ قدرتهم ولأنْ يُثنَىعليك باتِّساع الصدر خيرٌ من أن يُثْنى عليك بضِيق الصَّدر على أنّ إقالتك عثرةَ عبادِ اللّه موجبٌ لإقالتك عَثْرَتَكَ من ربِّ عباد اللّه وعفوُك عنه موصولٌ بعفو اللّه عنك وعقابُك لهم موصولٌ بعقاب اللّه لك".
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العاملين
المصدر
التغافل للكاتب توفيق علي زبادي
__________________


تعليقات
إرسال تعليق